يدرك دائماً خبراء وعشاق كرة القدم أنها لعبة لاتتوقف على لاعب بعينه، وأن فوز أي فريق بمباراة أو بطولة، ما هو إلا نتاج تألق جميع لاعبي هذا الفريق، وقدرة مديره الفني على إدارة مبارياته من خارج الملعب، وعلى اللعب بأوراقه كاملة، سواء كانت موجودة داخل المستطيل الأخضر أو بجانبه على مقعد البدلاء.
ولكن على الرغم من ذلك فإن جميع من شاهد لقاء شاختار دونستك مع آي سي ميلان في دوري أبطال أوروبا والذي أقيم في أوكرانيا وانتهى بفوز ميلان بثلاثة أهداف دون رد، يدرك تماماً أنه توجد حالات قليلة، بل يمكن أن نقول نادرة، نجد فيها أن لاعب بعينه يساوي أكثر من نصف الفريق، وكان هذا اللاعب هو أندريا بيرلو، لاعب وسط الفريق الإيطالي، أحد أفضل صانعي الألعاب في العالم.
ورغم أن حديثنا عن أسباب تألق بيرلو في لقاء ميلان الأخير، وكيف أنه كان مفتاح الفوز في لقاءٍ بدا فوز ميلان فيه حتى منتصف الشوط الثاني حلماً صعب المنال، فإن هذا اللاعب تحديداً ظاهرة رائعة في عالم الساحرة المستديرة، يجب أن ترصد وتحلل، ليس بسبب مهاراته الفائقة فقط أو بسبب صناعته للعديد من الأهداف فقط، ولكن بسبب مستواه الثابت دائماً، إضافة إلى الدور الذي يلعبه مع ميلان أو مع المنتخب الإيطالي والذي يمثل بالفعل عقل الفريق المفكر وعموده الفقري.
من الظل إلى القمةتعتبر وبحق رحلة بيرلو مع كرة القدم منذ بدايته كناشئ مغمور وحتى يومنا هذا، رحلة كفاح رائعة، استطاع فيها هذا اللاعب أن يرتقي بمستواه ومكانته، بشكل كبير حتى أصبح واحداً من أهم وأفضل لاعبي كرة القدم ليس في إيطاليا فقط بل والعالم أجمع، فقد بدأ بيرلو حياته كلاعب في فريق بريشيا أحد الفرق الإيطالية الصغيرة التي لا تتواجد كثيراً في دوري الدرجة الأولى الإيطالي، ولعب لهذا الفريق أربعة مواسم بداية من موسم 1994 -1995 وحتى موسم 1997 – 1998، والمثير انه بدأ مع بريشيا في دوري الدرجة الأولى ثم هبط معه إلى دوري الدرجة الثانية الذي لعب له لموسمين قبل أن يعود مرة أخرى إلى دوري الأضواء.
ولعب بيرلو خلال تلك الفترة 47 مباراة 30 منها في دوري القسم الأول، ورغم أنه سجل في تلك 6 أهداف فقط إلا أن تألقه وموهبته سرعان ما وضحت للجميع، لتتهافت عليه الأندية الكبرى وفي مقدمتها إنتر ميلان الذي استطاع الظفر به ليلعب له موسمين بداية من موسم 1998 – 1999 وحتى موسم 1999 – 2000.
وابتداء من هذا التاريخ يمكن القول إن لاعب الوسط الإيطالي لازمه عدم التوفيق لفترة ليست بالقصيرة، ليصبح بعدها في مفترق طرق حقيقي، بين ان يكون لاعباً كبيراً وقائداً لوسط أكبر الأندية الإيطالية، وأن يكون مجرد لاعب عادي يتألق أحياناً، وينطفئ أحياناًً، فمع إنتر ميلان لم يوفق اللاعب حيث لعب في الموسم الأول 18 مباراة ولم يسجل أي هدف، ليعار في الموسم الثاني إلى ريجينا ليعاود التألق ثانية في الكالتشيو، حيث لعب في هذا الموسم جميع المباريات ( 28 مباراة) ونجح في تسجيل ستة أهداف، ليعيده إنتر مرة أخرى إلى صفوفة أملاً في استمرار تألقه، لكن بيرلو للأسف بيدو أنه كان غير محظوظ بالمرة مع إنتر فقد شارك بعد عودته في أربع لقاءات فقط لم يحرز خلالها أي هدف، ليذهب بعد ذلك إلى برشيا ناديه القديم ويلعب له في دوري الدرجة الأولى موسم 2000 – 2001، ولكن ظلت مشكلة عدم المشاركة في المباريات تلاحقه، إذ شارك في هذا الموسم في عشر مباريات فقط، لم يسجل فيها أي هدف وكان في معظمها احتياطياً.
لحظة فارقةوكان من الممكن للاعب أن يستمر في الظل، يشارك ويتألق في مباريات معدودة ويغيب عن الملاعب لفترات طويلة، لولا العين الخبيرة في آي سي ميلان التي التقطته وضمته إلى صفوف الفريق، بداية من موسم 2001 – 2002، ليفتح اللاعب بداية من هذا التاريخ صفحة جديدة من التألق والبطولات والإنجازات التاريخية سواء مع ناديه أو مع منتخب إيطاليا.
فبداية من أول مباراة خاضها بيرلو مع ميلان في 23 – 9 – 2001 أمام لاتسيو والتي انتهت بفوز الميلان 2 – 0، وضح للجميع أن ميلان كسب موهبة كبيرة، ستفرض نفسها وبقوة في وسط الفريق، بل سيصبح اللاعب الذي تضعه ثم تبني عليه تشكيلة الفريق بعد ذلك.
وأصبح بيرلو أحد أهم مفاتيح الفوز للفريق الإيطالي ليس ذلك فقط بل يمكن القول إنه العمود الفقري الذي يمنح ميلان التوازن الدفاعي والهجومي، فهو حلقة الاتصال بين دفاع الفريق وبين أجنحته ومهاجميه، لذلك لم يكن غريباً أن يشارك اللاعب الموهوب في 174 مباراة مع الميلان سواء في الدوري المحلي أو في كأس إيطاليا منذ انتقاله إلى صفوف الفريق وحتى يومنا هذا، على الرغم من ندرة أهدافه حيث سجل 30 هدفاً فقط طوال تاريخ مشاركاته مع ميلان، فهو ليس هدافاً مثل توتي في روما أو ديل بييرو في يوفنتوس على سبيل المثال، ولكن من الممكن أن نشبهه بالمخرج الذي يقف خلف الكاميرات لا تشاهده ولكن تلمس فكره وإبداعه عند كل مشهد فني.
مفتاح الفوز بالمونديالوبالتأكيد فإن تألق أندريا مع ميلان لفت الأنظار إليه بشدة ودفع القائمين على الإدارة الفنية في الأزوري إلى ضمه، وكانت بدايته مع منتخب إيطاليا تحت 21 الذي شارك في بطولة كأس الأمم الأوروبية عام 2000 واستطاع أن يقود المنتخب الإيطالي لفوز بالبطولة بعد إحرازه هدفين في المباراة النهائية في مرمى منتخب جمهورية التشيك.
أما مع المنتخب الأول فقد جاءت البداية الحقيقية للاعب في بطولة كأس الأمم الأوروبية عام 2004، وكانت هذه البداية مثيرة وطريفة إلى حد كبير، حيث أنه كان يعامل وقتها كبديل لتوتي قائد الأزوري ونجمه الأول، ولكن استبعاد توتي وإيقافه لمبارتين، بعد تعديه على أحد لاعبي منتخب الدنمارك أدى للدفع ببيرلو ليقود وسط إيطاليا في لقاءي السويد وبلغاريا في الدور الأول، ورغم أن إيطاليا ودعت البطولة مبكراً، إلى أنها كسبت بيرلو، الذي اعتبره مارتشيلو ليبي المفتاح الأساسي لتحقيق الفوز والتقدم في أي مباراة، ونافذته الرئيسية التي يصل منها إلى مرمى الخصم.
ولعل أداء بيرلو في كأس العالم يوضح ذلك بشكل كبير، فقط شارك اللاعب كأساسي في كل مباريات إيطاليا في البطولة، ويعتبر من أكثر اللاعبين تواجداً داخل الملعب أثناء المونديال، حيث شارك في 667 دقيقة أحرز خلالها هدفاً واحداً وصنع ثلاثة أهداف، وصوب 14 تصويبة خطرة على المرمى، ليس ذلك فقط بل حمل على عاتقه دوراً دفاعياً هاماً وهو إفساد هجمات الفريق المنافس من منتصف الملعب، حيث ارتكب ستة أخطاء تكتيكية، عند تحليلها فنياً اثبتت أنها أحبطت هجمات مرتدة كان من الممكن أن تتسبب في هز شباك المنتخب الإيطالي، والمثير للدهشة أن بيرلو خلال مشاركته في سبعة لقاءات في المونديال لم يتلق أي بطاقة صفراء على الرغم من مساعاداته الدفاعية المثمرة خلال البطولة وخاصة في لقائي ألمانيا وفرنسا.
فعلياً هو الأفضل ومع كامل احترامنا للنجم القدير زين الدين زيدان الحاصل على لقب أفضل لاعب في المونديال السابق، فإن الأرقام والأوراق تؤكد أن بيرلو كان يستحق هذا اللقب وعن جدارة، فقد حصل على لقب أفضل لاعب في ثلاث مبارايات بداية من لقاء إيطاليا وغانا في الدور الأول الذي أحرز فيه أول أهداف المنتخب الإيطالي في البطولة بتسديدة رائعة في الشوط الأول من خارج منطقة الجزاء، مروراً بلقاء ألمانيا في الدور نصف النهائي، الذي يعتبر بيرلو فيه وبحق هو النجم الأول، ففي الوقت الذي كان فيه نجوم المانشافت هم الأقرب لتحقيق الفوز سطع نجم اللاعب الإيطالي واستطاع صناعة هدف التقدم لمنتخب إيطاليا في الدقيقة 119 عندما مرر كرة حريرية للاعب فابيو غروسو محرز الهدف.
وكان مسك ختام مشوار اللاعب في المونديال الماضي في النهائي أمام فرنسا، عندما حصل على لقب أفضل لاعب في المباراة، والمثير واللافت للنظر أنه لم يحصل على هذا اللقب بسبب كونه صانع ألعاب الأزوري أو أنه لاعب وسط مهاجم متميز، بل لدوره وأدائه الدفاعي الرائع في المباراة والتي استطاع فيها أن يحد من أداء نجم فرنسا زين الدين زيدان.
ولقد أشاد به أعضاء اللجنة الفنية في المونديال الماضي وهم بالتأكيد صفوة خبراء كرة القدم العالمية، حيث قال عنه جورجي ميزي: "إنه صانع ألعاب رائع كما أنه يلعب جيداً أمام خط دفاعه، فهو دائما يفعل الشيء السليم في الأوقات الصحيحة. وكان بارعاً للغاية في مساعدته لزملاءه"، كما قال عنه جوزيف فينغلوس عضو اللجنة الفنية بالفيفا: "بيرلو قدم عروضاً رائعة خلال البطولة، لقد كان يتحرك بشكل جيد للغاية ويساعد في شن الهجمات على المرمى فضلاً عن مساعدته الدفاعية وضغطه المستمر على مفاتيح لعب الفرق الأخرى."
دوره مع الفريقوهذا بالفعل مايمكن أن نصف به بيرلو، فهو لاعب يؤدي دور ثلاثة لاعبين.
• فهو أولاً صانع الألعاب الذي يعطي التمريرات الماكرة للمهاجمين، مثلما فعل على سبيل المثال في المباراة الاخيرة أمام شاختار دونستك عندما مرر كرة ماكرة لإنزاغي أحرز منها الهدف الأول.
• كما أنه يؤدي دور لاعب الوسط المدافع، بل يمكن القول إنه الحائط الدفاعي الأول مع فريقه الذي يضغط على صانعي ألعاب الفرق الأخرى، ليحبط هجمات المنافسين في مهدها.
• إضافة إلى الدور الهام جداً أو يمكن وصفه أنه الدور الأهم من وجهة نظر المدربين فنياً وهو، أنه دائماً يتواجد أمام المدافعين، وقريباً منهم حيث يتحرك دائماً ليفتح لهم زوايا التمرير ليساعدهم على تمرير كرات صحيحة له يقوم باستثمارها بعد ذلك في بناء هجمات منظمة لفريقه سواء كان ميلان أو منتخب إيطاليا.
والناظر إلى تشكيلة كارلو أنشيلوتي في لقاء ميلان الأخير خارج ملعبه أمام شاختار يدرك ذلك، فقد وضع بيرلو في قلب الوسط تماماً أو يمكن القول في مربع محاط بأربع لاعبين إثنين من خلفه هما المدافعان كالادزه ونستا، وإثنين أمامه هما لاعبي الوسط أمبروسيني وغاتوزو، أي أنه بالفعل يمثل قلب الفريق وعقله الذي يربط بين دفاعه وهجومه إضافة إلى قدرته الفائقه على صناعة الأهداف.
وفي النهاية لن نجد ما نختتم به حديثنا عن أندريا بيرلو، أفضل مما قاله غاتوزو زميله ورفيقه في ميلان ومنتخب إيطاليا، عندما امتدحه قائلاً: "عندما أرى ما يفعله بيرلو بالكرة أقف مذهولاً وأسأل نفسي، هل أنا لاعب كرة".